ما هو مصير الشيعة بعد نصرالله؟
دروسٌ وعِبَر من بشير الجميل وكمال جنبلاط وموسى الصدر ورفيق الحريري
منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، تحوّل الاغتيال السياسي في لبنان إلى أداة رئيسية للتغيير، بل إلى اللاعب الأكثر تأثيراً في تشكيل مسار الأحداث. ذلك في ظل استعصاء الحلول السياسية وفشل الأطراف المتصارعة في حسم الحرب الأهلية لصالح أي منها.
مسار الدم والدموع
في عام 1977، اغتيل الزعيم الاشتراكي الدرزي كمال جنبلاط، الذي كان يسعى إلى تغيير اجتماعي وسياسي يلغي الركيزة الطائفية للنظام اللبناني ويعدل هوية البلد ودوره الاقليمي. قاد جنبلاط تحالفاً يسارياً إسلامياً واسعاً، ارتكز إلى الوجود الفلسطيني المسلح وشرعية ما كان يُعرف آنذاك بالثورة الفلسطينية. وبعد عام واحد، اختُطف الإمام موسى الصدر، القيادي الشيعي الذي سعى إلى إعادة صياغة دور الشيعة في النظام اللبناني دون المساس بهويته المتنوعة.
وفي عام 1982، اغتيل بشير الجميل، الزعيم المسيحي الذي قاد مساعي طائفته لإعادة انتاج هيمنتها على الصيغة اللبنانية، ضمن إطار دولة مركزية حديثة ومشروع إقليمي يتقاطع مع اتفاق السلام بين أنور السادات وإسرائيل في اطار مشروع سلام إقليمي ينهي معضلة لبنان مع القضية الفلسطينية واستحالة الحياد تجاهها.
بين عامي 1982 و2005، شهد لبنان اغتيال عشرات الشخصيات المؤثرة من مختلف الطوائف، بما في ذلك المفتي حسن خالد ورئيس الجمهورية رينيه معوض. إلا أن الخريطة المذهبية اكتملت باغتيال رفيق الحريري، الزعيم السني الذي قاد مشروع إعادة الإعمار وربط الاقتصاد اللبناني بالاقتصاد الخليجي. أدى انقلابه على الوصاية السورية إلى مقتله، ما أثار زلزالاً إقليمياً لا تزال تداعياته مستمرة حتى اليوم.
وفي 27 سبتمبر 2024، قُتل حسن نصرالله، زعيم حزب الله، الذي يُعتبر أحد أبرز حلقات النفوذ الإيراني في المنطقة. قاد نصرالله هيمنة الطائفة الشيعية على القرار السياسي اللبناني، وكان يُنظر إليه في سوريا والعراق واليمن وإيران كأبرز قيادي شيعي على المستوى العالمي.
سقوط مشروع وفوز ناقص لآخر
وفي كل من هذه الاغتيالات تغير مسار لبنان ومسار طوائفه بشكل مختلف.مع رحيل كمال جنبلاط، لم يسقط مشروع إلغاء الطائفية السياسية فحسب، بل أعيد تثبيت هذا النظام في اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية. وعلى مستوى آخر، تقلص دور الطائفة الدرزية في اللعبة السياسية، رغم نجاح وليد جنبلاط في لعب أدوار أساسية عبر مناورات سياسية مرنة.
أما الشيعة، فقد نجحوا بعد غياب موسى الصدر في تعديل حجمهم داخل النظام السياسي، بل أصبحوا القوة المهيمنة. إلا أن توجهات الصدر لم تكن البوصلة الأساسية للشيعية السياسية، بل توجيهات المرشد الأعلى في إيران، التي أدخلت لبنان في محور إقليمي عدائي مع الغرب والعرب. فيما تسبب الاستقواء بسلاح حزب الله تحت عنوان مقاومة إسرائيل وقتال الحزب في سورية ومسؤوليته المفترضة عن بعض الاغتيالات بمزيد من الاستقطاب داخل المجتمع اللبناني .
حروب صغيرة وعزلة
من جانبهم، فقد المسيحيون مع اغتيال بشير الجميل مشروعهم لإعادة بناء هيمنتهم عبر دولة مركزية قوية. وبين 1982 و 1990 موعد نهاية الحرب، خاص المسيحيون حربين اهليتين مصغرتين على الاقل، وسجن وابعد زعماءهم عن البلاد لأكثر من ١٥سنة تحكمت خلالها سورية بالحياة السياسية وعزلوا عمليا عن الحياة السياسية حيث باتت دمشق تختار الزعماء والنواب والوزراء المسيحيين. وحتى بعد خروج سمير جعجع من السجن وعودة أمين الجميل وميشال عون من المنفى لم يستعد المسيحيون توازنهم. إلا ان اتفاق الطائف منحهم المناصفة أي تقاسم الحكم وقيادة مؤسسات الدولة بغض النظر عن حجمهم الديمغرافي المتراجع.
السنّة والفراغ السياسي
ورغم أن رفيق الحريري لم يقدم نفسه كزعيم سني وحاول أن يقود تياراً سياسياً عابرا للطوائف يمثل الطبقة الوسطى فإن غيابه أدى الى ارتدادات قاسية على الطائفة السنية ومكانتها في التركيبة اللبنانية. في خلال وجود الحريري الاب في رئاسة الحكومة، عرف لبنان ما يسمى بالترويكا وهي عبارة عن توازن غير متكافئ بين رئيس الجمهورية المعين من سورية والموافق على "خط المقاومة" ورئيس الحكومة المدعوم عربياً والمتعايش مع تحالف الوصاية السورية والمقاومة، ورئيس مجلس النواب "الدائم" نبيه بري الشخصية الشيعية التاريخية التي تقود حركة أمل. وبعد رحيله تحولت رئاسة الحكومة، خصوصاً بعد اعتكاف نجله سعد عن العمل السياسي الى نقطة تجاذب بين المسيحيين العائدين بحثا عن مكانة مفقودة والشيعة الذين يقاتلون بضراوة للحفاظ على المكتسبات.
الشيعة بعد نصرالله
يبقى السؤال المطروح اليوم هو إلى أين سيقود مقتل حسن نصرالله الشيعة ولبنان. هل يعزل الشيعة عن السلطة في لبنان كما حدث مع المسيحيين في أيام الوصاية السورية ؟ هل يتحجم دوره في التركيبة السياسية كما جرى برئاسة الحكومة بعد اغتيال الحريري؟ من الوهلة الاولى يبدو أن مشروع الشيعية السياسية تحت راية السلاح وإيران قد سقط تماما كما حدث في سيناريو اغتيال جنبلاط.
ويطرح التقاعد الوشيك لبري وغياب نصرالله أسئلة عن مصير الثنائي الشيعي بعد خمسة أعوام من اليوم . فعلى عكس المسيحيين الذين سجن ونفي زعمائهم ثم عادوا ولو بعد 10 سنوات، فإن الشيعة مهددون بفراغ مؤلم في الزعامة لا يمكن ملئه بسهولة.
في المقابل يبدو من المستبعد ان يخوض حزب الله وحليفته حركة امل ما يشبه "حروب التسعينيات" التي خاضها المسيحيون ضد بعضهم، فيما يرى بعض المراقبين ان التوتر بين اجنحة الوسطيين والمتشددين داخل حزب الله قد يتصاعد لكن احتمال تحوله إلى عنف فعلي يكاد يكون مستحيلاً.
النظام الطائفي: حلقة مفرغة؟
يختصر هذا المسار المأساوي مصير النظام اللبناني الطائفي، الذي صُمم أصلاً لحماية الأقليات وضمان حريتها في ممارسة عقائدها. إلا أن هذا التصميم الهش يفرض تصادماً مستمراً بين الطوائف كلما شعرت إحداها بأن دورها لم يعد عادلاً.
هل يُعتبر التخلي عن الصيغة الطائفية حلاً؟ قد يكون إلغاء الطائفية السياسية محفزاً لتصادم أشد عنفاً، حيث يعني تحرير النظام من الحصص الطائفية أن كل طائفة قد تحصل على كل شيء أو لا شيء. وهذا بالضبط هو صمام الأمان الذي يُبقي النظام اللبناني قائماً، رغم كل شيء.
وفي ظل التغيرات الجيوسياسية العالمية وعودة "لعبة القوى الكبرى"، يواجه المشروع الإيراني في لبنان خطراً وجودياً، خاصة مع سقوط نظام الأسد في سوريا، الذي كان يشكل الصلة الفعلية بين إيران وشيعة لبنان. وبالتالي، تبدو خيارات الشيعة في لبنان صعبة ومعقدة، في وقت يبدو فيه النظام الطائفي عالقاً في حلقة مفرغة من الصراع والتحولات.