لماذا قد يفشل ترامب حيث نجح كيسنجر؟ بوتين لن ينقلب على الصين
في محاولة لايجاد تفسير عقلاني للتقارب الذي يسعى اليه دونالد ترامب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يتحدث بعض المحللين عن مساعي ترامب لقلب مبادرة نيكسون -كيسنجر مع الصين في سبعينيات القرن الماضي، بمعنى انه إذا نجحت واشنطن عندها في استمالة بكين لمصلحتها في منافستها الاستراتجية مع الاتحاد السوفياتي، فلما لا تنجح الآن في استمالة روسيا لصفها في منافستها الاستراتيجية مع الصين، خصوصاً أن الصين وروسيا تبادلتا الأدوار حيث باتت بكين هي المنافس الاستراتيجي لواشنطن فيما جرى اعتبار موسكو إلى حد بعيد "قوة إقليمية كبيرة"، على حد وصف الرئيس الاميركي السابق باراك أوباما.
لم يخف ترامب، تطلعه إلى مثل هذه الاستراتيجية. وقال رجل الأعمال المعجب بالكثير من جوانب تراث الرئيس السابق ريتشارد نيكسون، في مقابلة مع تاكر كارلسون، مقدم البرامج الحوارية اليميني، في أكتوبر 2024، إنه من"العار" و"الغباء" أن تدفع الولايات المتحدة الصين وروسيا إلى التقارب، وأضاف : "سأضطر إلى التفريق بينهما. أعتقد أنني أستطيع أن أفعل ذلك"، مشددا على ان روسيا والصين "اعداء طبيعيون" ، وان الولايات سمحت لهما بل ودفعتهما إلى التوحد.
للإجابة على هذا السؤال، من الضروري إجراء مقارنة تحليلية بين طبيعة العلاقات الروسية-الصينية في حقبة الحرب الباردة وبين واقعها الحالي. ففهم ديناميكيات التحالفات والصراعات بين موسكو وبكين آنذاك، إلى جانب العوامل الاستراتيجية والجيواقتصادية التي تحكم علاقتهما اليوم، يتيح لنا تقييم مدى واقعية محاولة ترامب إعادة تشكيل التوازنات الدولية على غرار ما فعله نيكسون وكيسنجر في السبعينيات.
الدعم المرتبك
لقد كانت العلاقة بين الاتحاد السوفياتي والحزب الشيوعي الصيني معقدة عبر مزيج غريب من التعاون و التنافس خلال الحرب الأهلية الصينية (1927-1949)، وصولاً إلى الشرخ الكبير بين الصين والاتحاد السوفياتي بعد وفاة ستالين، والذي استمر تقريباً حتى انهيار الأخير في تسعينيات القرن الماضي.
خلال الحرب الأهلية الصينية، قدم الاتحاد السوفياتي دعمًا للحزب الشيوعي الصيني، لكن سلوكه اتسم بشكل عام بالحذر والتردد لأسباب لها علاقة من جهة برغبة موسكو في التحكم بالاحزاب الشيوعية ومن جهة أخرى بخشيتها من أن يؤدي صعود الصين الشيوعية القوية إلى تحدي النفوذ السوفياتي في آسيا.
حاول ستالين المعروف بتوجسه من "الرفاق" أكثر بكثير من الاعداء، على قدر الإمكان، الاحتفاظ بسياسة متوازنة بينالقوميين الصينيين (الكومينتانغ) بزعامة تشيانغ كاي شيك والزعيم الشيوعي ماو تسي تونغ.
توتر خفي
رغم ذلك، أعطت سيطرة السوفيات على منشوريا وتمكينهم الشيوعيين الصينيين من حيازة كميات من الأسلحة والتكنولوجيا اليابانية، ميزة ميدانية لماو ساعدته في حسم الحرب لصالحه، لكن في المقابل واصل الروس اعتبار منشوريا مجال نفوذ خاص بهم، بما في ذلك احتفاظهم بإدارة سكة الحديد وهو ما شكل مصدر توتر خفي.
وفي منطقة شينجيانغ، شمال غرب الصين، اختلف المؤرخون حول توصيف دور السوفيات الذين دعموا سابقاً جمهورية تركمانستان الشرقية التي أعلنها انفصاليون ايغور وكازاخ، في حملة الشيوعيين لانتزاع المنطقة من الكومينتانغ. وعمل ماو بحزم لدمج شينجيانغ بالصين، لكن كما في منشوريا احتفظ الروس ببعض النفوذ هناك وهو ما أدى إلى احتقان مكتوم.
وعند إعلان جمهورية الصين الشعبية في 1949، لم تحل قضية الحدود مع الاتحاد السوفييتي بشكل نهائي. ورغم أنماو قبل مبدئيًا بالحدود الموروثة من روسيا القيصرية، فإن هناك دلائل على أن الصين لم تتخلَّ تمامًا عن فكرة مراجعتها لاحقًا.
و مع اندلاع الحرب الكورية استاء ماو من تردد ستالين في تقديم دعم كامل للشيوعيين الكوريين في بداية الحرب، رغم ذلك مكّن الدعم السوفييتي اللاحق ماو من استخدام الحرب الكورية كأداة لتعزيز شرعيته داخليًا وخارجيًا،وترسيخ حكمه كزعيم لا جدال فيه للصين الشيوعية.
كما ساعد الاتحاد السوفياتي الصين في إعادة بناء اقتصادها، من خلال تقديم المساعدات والخبرات التقنية والدعمالصناعي بموجب معاهدة الصداقة الصينية-السوفياتية (1950).
في هذه الفترة، قدمت الدولتان جبهة شيوعية موحدة ضد الولايات المتحدة وحلفائها، والتزمتا مبدئيًا بنشرالشيوعية عالميًا، رغم اختلاف أساليبهما.
الشرخ الكبير
قبل وفاة ستالين في 1953، تجنب ماو أي مواجهة مع الروس، وموضوعياً لم تكن الصين قادرة على تحدي ستالين المتحفز بعد خروج تيتو و يوغسلافيا من تحت عباءته.
مع تولي خروتشوف السلطة شهدت العلاقات تحولا جذرياً. يعتبر الكثير من المؤرخين الغربيين خصوصاً، ان ماو تأثر بادانة خورتشوف لستالين في خطاب سري بعنوان "حول عبادة الشخصية وعواقبها" في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي وبإطلاق حملة ازالة الستالينية في عملية شملت تفكيك العديد من سياسات ستالين القمعية،الإفراج عن عدد من السجناء السياسيين، وتخفيف القبضة الأمنية للدولة. ويميل المؤرخون الغربيون إلى أن ماو شعر بالخوف من مواجهة مصير مشابه لستالين، وشن في مواجهة ذلك حدبا دفاعية ضد سياسات خروتشوف واصفاً إياها بانها تحريفية وتنقيحية، بما في ذلك فكرة التعايش السلمي مع الغرب. وقد أيقظ هذا الشرخ في اعلى الهرم كل الملفات الخلافية بين بكين وموسكو، وأبرزها الخلافات الحدودية.
حرب الحدود
وفيما بدأت الصين تتحدث بشكل أكثر صراحة عن مظالمها التاريخية مع روسيا القيصرية، زادت الحوادث على الحدود بما في ذلك في شينجيانغ ومنشوريا.
واتهمت الصين الاتحاد السوفياتي بنشر قوات مفرطة على الحدود، معتبرةً ذلك استعدادًا لغزو محتمل. وبحلولمنتصف الستينيات، نشر الطرفان أعدادًا هائلة من القوات على امتداد الحدود البالغ طولها ٧ الاف كيلومتر.
وفي مارس 1969، نصبت القوات الصينية كمينًا لدورية حدودية سوفياتية على جزيرة تشينباو، مما أسفر عن مقتلالعشرات من الجنود السوفيات. رد الاتحاد السوفياتي بقصف مدفعي وهجمات مضادة.
وفي أغسطس من العام نفسه، اندلع اشتباك آخر في تيليكيتي، وهو موقع حدودي ناءٍ في شينجيانغ بالقرب منكازاخستان السوفياتية، عندما هاجمت القوات السوفياتية موقعًا صينيًا، مما أدى إلى معركة قصيرة ولكنهادموية.تصاعدت الأزمة إلى حد أن كلا الجانبين بدأ في التفكير في حرب أوسع. ووفق بعض التقارير، ناقشت موسكوتوجيه ضربة نووية استباقية ضد الصين. وفي سبتمبر 1969، اتفق الطرفان على تهدئة النزاع بعد محادثات بين رئيس الوزراء الصيني تشو إنلاي ورئيس الوزراء السوفياتي أليكسي كوسيغين.
القفزة الكبرى" والخلافات الاقتصادية
كان الاقتصاد الصيني يعتمد إلى حد كبير على الاتحاد السوفياتي، خاصة في الخمسينيات. وخلال الخطة الخمسية الأولى (1953-1957)، تم تنفيذ العديد من المشاريع في الصين بمساعدة سوفياتية، حيث أرسل السوفيات مستشارين لبناء المصانع والبنية التحتية، وقدموا معدات وتقنيات صناعية. كما ساعدوا في بناء أكثر من مئةوخمسين مشروعًا صناعيًا في قطاعات مثل الصلب والطاقة والكيماويات. وكانت الصين تعتمد على السوفيات فياستيراد المعدات الثقيلة والآلات والتكنولوجيا، بينما كانت تصدر لهم المواد الخام مثل الفحم والحبوب. وخلال فترة"القفزة الكبرى للأمام" (1958-1962)، حاول ماو تحويل الصين بسرعة إلى قوة صناعية وزراعية، لكنه فشل فشلاًذريعًا، مما أدى إلى مجاعة كارثية أودت بحياة حوالي ثلاثين مليون شخص. انتقد الاتحاد السوفياتي هذه السياسةورفض تقديم دعم اقتصادي إضافي، مما زاد من توتر العلاقات. وفي عام 1960، قام خروتشوف بسحب جميع الخبراء السوفيات من الصين وأوقف المساعدات، مما زاد من عزلة الصين.
الثورة الثقافية ..تصاعد العداء الأيديولوجي
ومع إطلاق ماو الثورة الثقافية في 1966 التي كانت تهدف رسميًا إلى “تنظيف” المجتمع الصيني من العناصر“الرأسمالية” و”التقاليد البالية” كان للتيار السوفياتي داخل الحزب الشيوعي الصيني نصيب منها. وصعدت الصين من انتقاداتها للاتحاد السوفيتي، واصفة إياه بـ الإمبريالية الاجتماعية".
خلافات عابرة للحدود
على مستوى آخر، سعى ماو بعد وفاة ستالين، إلى تعزيز نفوذ الصين على كوريا الشمالية، مما أدى إلى احتكاك معالاتحاد السوفيتي الذي كان أسس نظام كيم سونغ إيل وكان الداعم الأساسي له. في المقابل، عززت موسكو وجودها العسكري في منغوليا وآسيا الوسطى. ودعمت موسكو الهند مقابل دعم صيني لباكستان.
وامتدت الخلافات إلى أفريقيا، ففي زيمبابوي دعمت الصين موغابي ضد جوشوا نكومو المدعوم سوفياتيا، وايضًا في الكونغو حيث دعم الطرفان قوى متحاربة.
كيسنجر على الخط
مع ازدياد العداء للاتحاد السوفياتي، بدأ ماو في التقارب مع الولايات المتحدة وهو ما كان يناقض عملياً انتقاداته لسياسة التعايش السلمي التي كان يروج لها خورتشوف بل وتبناها بعد ان تراجع السوفيات عن سياسات خروتشوف الذي اطيح به بطريقة عنيفة في 1964.
في 1971 زار هنري كيسنجر بكين سرًا، ثم تبعه الرئيس الاميركي ريتشارد نيكسون في 1972 مما شكل تحالفًا استراتيجيًا ضد الاتحاد السوفياتي.
بعد سقوط الجدار
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، مرت العلاقات الصينية-الروسية بمراحل عدة، حيث انتقلت من التوترإلى التعاون الاستراتيجي. في مرحلة إعادة بناء العلاقات (1991-1996)، اعترفت الصين بروسيا كوريثة للاتحادالسوفياتي، وبدأت علاقات دبلوماسية جديدة. وفي عام 1994، وقّع الجانبان إعلان الشراكة التعاونية، متعهدين بحلالنزاعات الحدودية ودعم الاستقرار الإقليمي. وفي عام 1996، أُعلن عن شراكة استراتيجية بين البلدين، حيث بدأتموسكو وبكين في التنسيق لمواجهة الهيمنة الغربية.
وفي مرحلة التقارب والتعاون الاستراتيجي (1997-2008)، وقّع الجانبان في عام 1997 اتفاقية عدم استهداف بعضهما بالصواريخ النووية، وفي عام 2001 تم توقيع معاهدة الصداقة والتعاون التي أرست أسس التعاون العسكري والاقتصادي. وفي عام 2003، دعمت روسيا انضمام الصين إلى منظمة شنغهاي للتعاون، التي أصبحت منصةللتعاون الأمني والاقتصادي. وفي عام 2004، حُلت آخر النزاعات الحدودية العالقة بينهما. وفي عام 2008، دعمالروس الموقف الصيني في قضية تايوان، بينما امتنعت الصين عن إدانة التدخل الروسي في جورجيا.
وفي مرحلة تعزيز التحالف (2009-2019)، وبعد العقوبات الغربية على روسيا في عام 2014 بسبب أزمة القرم،تعززت العلاقات الاقتصادية، ووقّع الطرفان صفقة غاز ضخمة بقيمة أربعمئة مليار دولار. وفي عام 2015، بدأتالصين وروسيا تنسيق مواقفهما في الشرق الأوسط، لا سيما في سوريا. وفي عام 2017، أجريا تدريبات عسكرية مشتركة، مما زاد من تعاونهما الأمني. وفي عام 2019، وصف بوتين العلاقات بأنها وصلت إلى "مستوى غير مسبوق"،وتم تعزيز الشراكة في مجالات الطاقة والتكنولوجيا.
وفي مرحلة التنسيق في مواجهة الغرب (2020-حتى اليوم)، أعلنت روسيا والصين في عام 2022 شراكة "بلا حدود" قبل الحرب الروسية الأوكرانية، ورفضت الصين إدانة موسكو رغم الضغوط الغربية. وفي عام 2023، عززت الصيناستيراد النفط والغاز الروسي لدعم الاقتصاد الروسي تحت العقوبات. وفي عام 2024، يواصل البلدان التنسيق في الأمم المتحدة ومجموعة بريكس مع استمرار التعاون العسكري والتكنولوجي.
جمر تحت الرماد
هذا لا يعني ان الخلافات او التنافس بين موسكو وبكين كدولتين كبيرتين متجاورتين قد انتهت. بقيت بعض الخلافات الثنائية تطل برأسها فيما ظهرت بؤر للتنافس على النفوذ في مناطق حيوية خصوصا في آسيا الوسطى وكوريا الشمالية وجنوب شرق آسيا وأفريقيا يبقى مصدر توتر مستمر.
شبح الحدود
رغم حل الخلافات الحدودية بشكل كامل بين البلدين في 2004، أصدرت الصين في اغسطس 2023 "الخريطة القياسية لعام 2023"، والتي تضمنت بعض المناطق المتنازع عليها مع الهند وبلدان أخرى. تضمنت الخريطة بعض الإشارات التي فُسرت على أنها تشير إلى أراضٍ في أقصى الشرق الروسي، مثل مدينة فلاديفوستوك الساحلية المهمة تجاريا والمناطق المحيطة بها، والتي كانت جزءًا من الصين حتى القرن التاسع عشر قبل أن تستولي عليها الإمبراطورية الروسية القيصرية.
أثار هذا بعض الجدل في وسائل الإعلام الروسية، حيث اعتبر البعض أن الصين تحاول التأكيد على مطالب تاريخية،رغم أن الحكومة الروسية لم تصعّد الموضوع رسميًا.
كوريا الشمالية
قبل الانقسام الصيني السوفياتي، كانت كوريا الشمالية أقرب إلى موسكو، التي دعمتها اقتصاديًا وعسكريًا وبعد الانقسام حاول كيم إيل سونغ اللعب على التنافس بين الطرفين للحصول على مزيد من الدعم دون الانحياز الكامل لأي منهما.
ومنذ الثورة الثقافية الصينية إلى انهيار الاتحاد السوفياتي تدهورت العلاقات بين الصين وكوريا الشمالية، وأصبحت كوريا الشمالية تعتمد أكثر على الاتحاد السوفيتي.
-بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أصبحت الصين الداعم الرئيسي لكوريا الشمالية، حيث قدمت مساعدات اقتصادية وغذائية كبيرة.
رغم ذلك، ظلت العلاقات بين الصين وكوريا الشمالية متوترة بسبب البرنامج النووي و اختبارات بيونغ يانغالصاروخية التي أحرجت بكين دوليًا. بعد 2014 ومع تزايد العقوبات الغربية على روسيا، بدأ الكرملين في تعزيز علاقاته مع كوريا الشمالية لموازنة النفوذ الصيني.
وفي 2023 عززت روسيا دعمها لكوريا الشمالية، حيث تبادلت الأسلحة مع بيونغ يانغ في ظل حرب أوكرانيا، مما زاد من المنافسة مع الصين على النفوذ.
في يونيو 2024، وقّعت روسيا وكوريا الشمالية "معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة"، التي دخلت حيز التنفيذ فيديسمبر من نفس العام. تتضمن هذه المعاهدة التزامًا بالدفاع المتبادل، حيث يتعهد كل طرف بتقديم المساعدةالعسكرية للآخر في حال تعرضه لهجوم مسلح.
بموجب هذه المعاهدة، قدمت كوريا الشمالية دعمًا عسكريًا لروسيا في نزاعها مع أوكرانيا، بما في ذلك إرسال حوالي10,000 جندي كوري شمالي لتلقي التدريب في روسيا، مع تقارير تشير إلى نشر بعضهم في مناطق القتال.
في المقابل، قدمت روسيا لكوريا الشمالية مساعدات تقنية، بما في ذلك التعاون في تطوير وإنتاج طائرات بدون طيار(درونز)، بهدف تعزيز القدرات العسكرية لبيونغ يانغ.
قد يشكل هذا التعاون تحديًا للسيطرة الصينية على بيونغ يانغ، حيث سيكون لدى كيم جونغ أون الآن داعم أمنيبديل بجانب بكين. وقد ترى الصين ذلك خطرًا على استقرار المنطقة حيث يمكن أن تجعل الشراكة الجديدة كوريا الشمالية أكثر عدوانية في تحركاتها العسكرية.
وتفضل الصين كوريا الشمالية المستقرة والانعزالية التي لا تثير الحروب، فيما قد قد يشجع بوتين كوريا الشماليةعلى أن تكون أكثر تحديًا تجاه الغرب، مما يخاطر بتقويض استقرار الحدود الصينية. وبحال رأت الصين خطراً داهماً قد تبدأ في تشديد سيطرتها الاقتصادية على بيونغ يانغ للحد من نفوذ موسكو.
آسيا الوسطى: تنافس الامن والاقتصاد
تحت حكم الاتحاد السوفياتي كانت آسيا الوسطى تحت السيطرة السوفياتية التامة ولم يكن للصين تأثير يذكر فيالمنطقة. وكانت موسكو تعامِل المنطقة كحديقتها الخلفية الاستراتيجية، حيث نشرت قواتها وسيطرت علىاقتصاداتها.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ظلت روسيا القوة العسكرية المهيمنة في آسيا الوسطى من خلال منظمة معاهدة الأمنالجماعي (CSTO) وحافظت على قواعدها العسكرية في عدد من دول المنطقة .
مع ذلك، سمحت مبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI) التي اطلقها الرئيس الصيني شي جينبينغ في 2013 للصينبأن تصبح أكبر لاعب اقتصادي في المنطقة من خلال الاستثمارات في البنية التحتية والقروض والاتفاقات التجارية.
تعتمد على آسيا الوسطى كمنطقة لتأمين إمدادات الطاقة خاصة النفط والغاز الطبيعي. كما أن الصين تبحث عنطرق جديدة لنقل الطاقة إلى أسواقها الداخلية مما يجعل المنطقة مهمة جدًا من الناحية الاستراتيجية.
وتعتبر الصين أكبر مصدر للاستثمار في المنطقة، وقد وقعت العديد من الاتفاقات الاقتصادية مع دول آسيا الوسطىبالإضافة إلى المشاريع الكبرى مثل خطوط الأنابيب والموانئ. هذا النفوذ الاقتصادي ساعد في تحقيق الاستقرار بالعلاقات الثنائية بين الصين ودول آسيا الوسطى، مقارنةً بروسيا التي تعتمد أكثر على الروابط العسكرية والسياسية والتي توى أن الهيمنة الاقتصادية الصينية تمثل تحديًا لنفوذها التقليدي.
وفيما تراجع النفوذ الروسي بشكل كبير مع الغزو الروسي لأوكرانيا عززت الصين التعاون الاقتصادي والأمني والثقافي مع دول اسيا الوسطى، لكن يبدو ان التطورات الجديدة، وأبرزها انحياز الرئيس الاميركي دونالد ترامب للشروط الروسية لإنهاء الحرب، قد يفرض على دول وسط اسيا العودة إلى موازنة العلاقات بين بكين وموسكو خصوصا في حال تعافي الاقتصاد الروسي من العقوبات .
ويعتقد العديد من المحللين أن التعاون الصيني-الروسي في آسيا الوسطى قد يؤدي إلى استمرار التعاون الاستراتيجيبين البلدين لكن في الوقت ذاته، ستظل هناك منافسة واضحة بينهما في مجالات مختلفة. فالصين تسعى لتحويلآسيا الوسطى إلى منطقةٍ تتداخل فيها المصالح الاقتصادية بشكل رئيسي مما يضمن تدفقًا مستمرًا للموارد والنفط والغاز. أما روسيا، فتسعى للحفاظ على سيطرتها الأمنية في المنطقة، بينما قد تواجه تحديات في ذلك من خلال النفوذ المتزايد للصين.
موسكو تظهر أنيابها في كازخستان
يمكن اعتبار اضطرابات كازخستان في 2022 أوضح مثال على المخاطر التي قد تنشأ عن التنافس الصيني الروسي. ففي عام 2019 استقال نور سلطان نزارباييف من منصب رئيس كازخستان الذي كان يشغله منذ 1991 . كان نزارباييف محسوبا على موسكو وقد غزر التحالف الاستراتيجي معها طوال فترة حكمه.
في المقابل، حاول خليفته قاسم غومارت توكاييف، أن يُوازن بين روسيا و الصين، حيث سعى لتعميق العلاقات الاقتصادية مع الصين في إطار مبادرة الحزام والطريق دون قطع العلاقات الامنية مع موسكو.
وفي يناير 2022، اندلعت احتجاجات واسعة في كازاخستان تحت عنوان ارتفاع أسعار الوقود والظروف الاقتصادية السيئة. سرعان ما تحولت هذه الاحتجاجات إلى أعمال عنف شملت الاعتداءات على المباني الحكومية والمرافق الحيوية.في هذه الأثناء، كان نزارباييف لا يزال يحتفظ بنفوذه الكبير في القرارات السياسية والأمنية في كازاخستان وظل يشغل منصب رئيس مجلس الأمن الكازاخستاني، وهو منصب ذو تأثير في الشؤون الأمنية، ولا شك انه ساهم في قرار توكاييف الطلب رسميا من منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO)، التي تترأسها روسيا، إرسال قوات حفظ السلام إلى كازاخستان لمساعدتها في قمع الاحتجاجات واعادة الاستقرار. يعتقد بعض المحللين أن ما جرى في كازخستان قد يكون محاولة من روسيا لإظهار انيابها وتذكير دول المنطقة بأن قرار الاستقرار الأمن لا يزال بيدها.
في السنوات الأخيرة، سعت روسيا إلى تنفيذ مشاريع استراتيجية تتنوع بين الطاقة، السكك الحديدية، الطاقة النووية،و الزراعة في عدة دول آسيوية مثل الهند، فيتنام، ميانمار ، إندونيسيا، آسيا الوسطى و الشرق الأوسط تعتبر تحديًا اقتصاديًا صريحًا لـ الصين في مناطق حساسة كانت بكين قد طورت فيها نفوذًا كبيرًا، خاصة في إطار مبادرة الحزام والطريق. و يؤثر تزايد الحضور الروسي الأمني في دول افريقيا على النفوذ الذي بنته بكين عبر عشرات السنوات، خصوصاً مع تفضيل بكين للاستقرار وموسكو للاضطرابات التي تشكل تربة خصبة لتدخلها .
وفيما تظهر كل هذه التوترات حدود الشراكة بين الصين وروسيا إلا انها لا تبدو كافية لكسر التعاون الاستراتيجي بينهما حيث يعي الطرفان ان تداعيات التنافس الإقليمي بينهما قد تصب مباشرة في مصلحة واشنطن.
لماذا قد يفشل ترامب؟
بعد استعراض المراحل المختلفة للعلاقات بين الصين وروسيا، يظهر جليًا أن الظروف التي سمحت لهنري كيسنجر وريتشارد نيكسون باستمالة الصين ضد الاتحاد السوفياتي، غير متوافرة حاليًا بالنسبة لترامب. فالعلاقة بين الصين وروسيا اليوم هي علاقة شراكة استراتيجية، وليست مجرد نزاع أيديولوجي كما كانت الحال في حقبة الحرب الباردة. هذا الاختلاف الجوهري في الظروف يضع حدودًا واضحة لأي محاولة من ترامب لتكرار ما فعله كيسنجر. وفيما يلي أبرز أوجه هذا الاختلاف:
1. علاقة أقوى وأعمق
خلال الحرب الباردة، كانت الصين والاتحاد السوفياتي خصمين أيديولوجيين يتنازعان على الزعامة الشيوعية فيالعالم. وبالإضافة إلى التنافس الأيديولوجي، نشب بينهما نزاع حدودي كان من الممكن أن يؤدي إلى حرب شاملة. أما اليوم، فقد تغيرت الأمور تمامًا. الصين وروسيا باتتا شريكتين استراتيجيتين تتعاونان في شتى المجالات، بدءًا منالأمن العسكري وصولًا إلى الاقتصاد. النزاعات الحدودية بينهما قد حُلت، والتعاون بين جيشي البلدين يزداد قوةبشكل ملحوظ. كما أن كلا البلدين يعتبران الولايات المتحدة تهديدًا مشتركًا، مما يعزز من تعاونهم بدلًا منانقسامهما.وفي العام 2022 ، اعلن البلدان شراكة بلا حدود قبل ايام فقط من غزو أوكرانيا.
وقال القائد السابق للقيادة الأميركية في المحيطين الهندي والهادئ، صمويل بابارو، لصحيفة وول ستريت جورنال أن"الاعتقاد بأننا قادرون على دق إسفين بين روسيا والصين محض خيال"، مشيرًا إلى أن العلاقة بين موسكو وبكين استراتيجية ودائمة، في حين أن أي تقارب مع واشنطن سيكون مؤقتًا بطبيعته.
2. شريان الحياة الاقتصادي
منذ بداية الحرب في أوكرانيا وفرض العقوبات الغربية، أصبحت روسيا أكثر اعتمادًا على الصين اقتصاديًا. الصين،اليوم، هي أكبر شريك تجاري لروسيا، حيث تقدم أسواقًا ضخمة للنفط والغاز والموارد الطبيعية الروسية. في هذاالسياق، رغم أن ترامب قد يقدم لروسيا بعض التنازلات السياسية أو العسكرية، إلا أنه لا يستطيع تقديم شريانالحياة الاقتصادي الذي توفره الصين. حتى إذا تمكن ترامب من إقناع بوتين بإيجاد حل سياسي للحرب الأوكرانية، فإن هذا الحل لن يكون قادرًا على تعويض الفوائد الاقتصادية الطويلة الأمد التي تقدمها بكين. علاوة على ذلك، يدركبوتين أن الولايات المتحدة ليست شريكًا ثابتًا بسبب تقلب السياسات الأميركية بين الإدارات المختلفة، في حين ان الصين تقدم استقرارًا طويل الأمد يمكن الاعتماد عليه.
3. روسيا ليست "شريكًا صغيرًا"
خلال الحرب الباردة، كانت الصين بحاجة إلى الولايات المتحدة للانفصال عن الهيمنة السوفيتية، خاصة في وقتكانت فيه قوتها الاقتصادية في بداية مراحلها. أما اليوم، فقد تغيرت الأمور بشكل جذري؛ روسيا ترى نفسها الآن قوةعظمى مستقلة، لا مجرد طرف ضعيف في لعبة القوى العظمى. التحالف مع ترامب ضد الصين سيجعل روسيا تبدووكأنها مجرد أداة في يد الولايات المتحدة، ما قد يضر بشكل كبير بمكانتها الدولية. من خلال هذا المنظور، فإن أيتحرك من ترامب للتعاون مع روسيا ضد الصين قد يعرض روسيا لخطر فقدان سيادتها الجيوسياسية، وهو ما لايستهان به في حسابات بوتين.
نقاط قوة استراتيجة ترامب
في المقابل هناك نقاط قوة لا يمكن تجاهلها في استراتيجة ترامب وأبرزها:
التركيز على الصين
يتفق الجمهوريون والديمقراطيون وغالبية الاستراتيجيين الاميركيين ان الصين هي الخطر الاستراتيجي على الولايات المتحدة فيما روسيا لا يمكنها ان تعتبر منافساً للولايات المتحدة على النفوذ او الهيمنة، وبالتالي يجب ان ينصب التركيز الاميركي على بكين فقط.
ماركو روبيو وزير خارجية ترامب، و احد الصقور ضد الصين التي فرضت عليه عدة عقوبات، جادل اكثر من مرة دفاعا عن هذا المنطق.
وفي جلسة استماع بمجلس الشيوخ في عام 2024، قال روبيو إن الولايات المتحدة يجب أن تساعد في إنهاء الحربفي أوكرانيا، ليس لأن مئات الآلاف من الناس فقدوا حياتهم، بل لأن تلك الحرب تساعد الصين.
وقال روبيو: "يرى الصينيون فائدة كبيرة في أوكرانيا، لأنهم يعتبرون أنه كلما أنفقنا المزيد من الوقت والمال هناك،قل الوقت والمال والتركيز عليهم".
2.مكاسب اقتصادية
اشار تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال إلى أن موسكو، مستعدة لمنح الولايات المتحدة حقوقاً في المعادن في المناطق التي تحلتها موسكو من أوكرانيا في حال مضى ترامب باتفاق سلام بينهي حرب أوكرانيا بشروط مواتية لروسيا .
ولفت التقرير إلى مذكرة أعدها مركز تحليلي تابع للحكومة الروسية للكرملين، قبل انطلاق المفاوضات الروسية الاميركية في السعودية، تشمل اقتراحا بإنهاء التعاون مع الصين مقابل الدعم الاميركي في أوكرانيا.
وتتحدث بعض المعلومات عن وعد روسيا بالحد من استئناف صادرات الغاز الطبيعي إلى أوروبا بهدف تقويضالقدرة التنافسية الأوروبية والسماح ببيع الغاز الطبيعي المسال الأميركي.
ويجادل البعض بأن التعاون الاقتصادي الروسي سيخيف الصين والاوربيين المنافسين التجاريين لواشنطن والذين يتعرضون أصلا لضغط الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب في محاولة لتقويض تجارتهما ويمنح واشنطن افضلية تجارية خصوصا ان موسكو لا تشكل اي خطر يذكر بهذا الإطار.
3. توحيد قوى اليمين الغربي
على الرغم من أن درجة انفتاح ترامب على روسيا قد فاجأ بعض المراقبين، إلا أن هذه الاستراتيجية كانت مقترحة لسنوات من قبل اليمين المتشدد الغربي عبر ضفتي الأطلسي .
يتأثر العديد من الجمهوريين المنتمين إلى حركة MAGA بأفكار القومية البيضاء العنصرية ويرون أن الصين لا تشكل تهديدًا للهيمنة الإمبريالية الأميركية فحسب، بل وأيضًا تهديدًا آسيويًا ملحدًا شيوعيًا للرأسمالية والحضارة الغربية البيضاء "اليهو-مسيحية".
من ناحية أخرى، يرى العديد من المتشددين البيض في الولايات المتحدة وأوروبا روسيا كحليف محتمل، نظرًا لأنها رأسمالية وبيضاء ومسيحية في الغالب.
ولطالما اعتبرت زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبان أن الغرب يتقاسم "مصالح حضارية واستراتيجية مشتركة" مع روسيا ويجب أن يقطع علاقاته الوثيقة مع الصين الاشتراكية.وتضيف :
"تخيلوا... إذا سمحنا لأول منتج للمواد الخام في العالم - وهو روسيا - بإقامة تحالف مع أول مصنع في العالم - وهوالصين - للسماح لهما ربما بتشكيل أول قوة عسكرية في العالم. أعتقد أن هذا يشكل خطرًا كبيرًا محتملًا".
واحدى العبارات المفضلة لتاكر كارلسون، مقدم البرامج الحوارية اليميني المتطرف وحليف ترامب المقرب هي أن"روسيا ليست العدو الرئيسي لأميركا. ومن الواضح أن أي شخص عاقل لا يعتقد أنها كذلك. إن عدونا الرئيسي،بالطبع، هو الصين، وينبغي للولايات المتحدة أن تكون في علاقة مع روسيا، متحالفة ضد الصين، إلى الحد الذينستطيعه".
واشتكى كارلسون من أن الشراكة بين الصين وروسيا من شأنها أن تنهي "الهيمنة العالمية الأميركية".
وردا على انتقادات قطب الإعلام في إيطاليا مارينا برلسكوني لانفتاح ترامب على بوتين وتحذيرها من أن "ترامب لاينبغي أن يهدم الغرب"، قال ماتيو سالفيني زعيم حزب الرابطة اليميني المتشدد قبل ايام"أولئك الذين ينتقدون ترامب إما يغارون منه أو لا يفهمون ماذا يفعل". ولطالما كان سالفيني من المعجبين غير السريين ببوتين. وقد يعطي التقارب مع بوتين دفعة لكل الاحزاب الأوروبية اليمينية المشددة ويضع ادارة ترامب في زعامة هذا التيار المتنامي في وقت لا تلقى هذه الادارة اي تقدير من قبل النخب الليبرالية الغربية. وقالت صحيفة وول ستريت جورنال أن تحولواشنطن لدعم روسيا والابتعاد عن أوكرانيا سيؤدي إلى نفور حلفائها في أوروبا الذين يشكلون مجتمعين أكبر شريكتجاري وأكبر مستثمر أجنبي للولايات المتحدة، كما قد يؤدي إلى إثارة مخاوف الشركاء في آسيا كذلك.
روسيا العالقة
في كل الاحوال من المرجح أن مسعى ترامب لعكس مبادرة كيسنجر سيخلق استراتيجية جديدة ومختلفة تجاه روسيا، تعتمد على مزيج من الفرص والتحديات للجانبين الأميركي والروسي. لكن، ورغم هذه المبادرة، لا تبدوالمؤشرات الحالية تشير إلى أن هذا المسار سيؤدي إلى تحولات جيوسياسية كبرى تقسم فعليًا العلاقة بين الصينوروسيا. بدلاً من ذلك، سيجد بوتين نفسه مضطراً للتكيف مع الوضع الراهن، محاولًا موازنة علاقاته بين بكينوواشنطن، وستظل روسي عالقًة بين قوتين عظمتين، تمامًا كما كانت الصين عالقة بين المعسكرين خلال مبادرة كيسنجر.